مع اقتراب موعد ردّ الوديعة القطريّة، يواجه الرئيس عبد الفتاح السيسي أوّل أزمة اقتصاديّة منذ وصوله إلى الحكم. مليارا دولار يجب على مصر تسديدها لقطر قبل نهاية العام الجاري، فيما تأجّل مؤتمر المانحين إلى شهر آذار المقبل.
ويعوّل خبراء الاقتصاد المصري على تعويض قيمة الوديعة بمنح خليجية أخرى من السعودية والإمارات والكويت، لتخفيف حِدة الآثار السلبية التي ستخلفها رد الوديعة القطرية على الاحتياطي النقدي (13 مليار دولار بعد رد وديعة قطر)، خاصةً وأن موازنة الدولة لم يكن ضمن خطتها للعام الحالي رد الوديعة القطرية، وبالتالي فإن الحكومة مُلزمة بتعويض قيمة الوديعة خلال الفترة المقبلة باستثمارات سريعة، حتى لا يؤثر ردها على قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، أو على التزامات الدولة تجاه برنامج التنمية ودعم المواطن.
ويشير مراقبون أن الاقتصاد المصري خلال السنوات الثلاث الأخيرة يمر بمرحلة صعبة بسبب عجز الموازنة الذي أثّر بالسلب على الاحتياطي النقدي ليتقلص الاستثمار، ويزيد التضخُّم ويتباطأ النمو، وبالتالي ارتفاع البطالة وتدهور توزيع الدخل، في ظل حاجة الدولة إلى خلق فرص عمل وتخفيف حِدة التضخُّم بمشروعات وبرامج تنموية خلال الفترة المقبلة، والتي سيتم تمويلها جزئياً بواسطة مساعدات سخية من الدول العربية المصدرة للنفط (دول مجلس التعاون الخليجي)، ومع ذلك تظل المخاوف السياسية والأمنية وراء تراجع السياحة التي تُعتبر الدعامة الأساسية للاقتصاد، وضعف الاستثمار الخاص وهروب رؤوس الأموال.
على الرغم من البداية الواعدة للرئيس عبد الفتاح السيسي، واتخاذ خطوة مهمة لمواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة من خلال رفع الدعم جزئياً عن الوقود والمواد الغذائية لزيادة إيرادات الموازنة، والتي قلّلت من العجز المالي بنسبة 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى زيادة أسعار الفائدة مؤقتاً من أجل مرونة سعر صرف العملة المحلية أمام نظيرتها الأجنبية.
ويقول د. صلاح جودة مدير مركز الدراسات الاقتصادية بالقاهرة: لا تزال هناك تحديات اقتصادية شاقة في وقت تتفاقم فيه حالة عدم اليقين السياسي والمخاوف الأمنية الإقليمية المتزايدة؛ مما يعكس انخفاضاً في الاستثمار، ويرى أن زيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية غير مؤكدة مالم يتم خفض العجز المالي بشكل حاد، والذي تسبب في اتساع العجز المالي وإحداث فجوة مالية خارجية (حوالي 10 مليار دولار سنوياً)، ويمكن تمويلها بشكل كبير من مساعدات دول مجلس التعاون الخليجي، لكن هذا الأمر يتطلب نمو الاحتياطي للحفاظ على الاستقرار الخارجي، ويشير إلى أن رد الوديعة القطرية على دفعتين أحدث فجوة في الاحتياطي النقدي، خاصةً وأن قيمة الوديعة 2.5 مليار دولار (حوالي 17.5 مليار جنيه مصري) لم يتم تعويضها باستثمارات جديدة، بالإضافة إلى أنها لم تكن مُدرجة على الموازنة العامة، ولكن الأمر الواقع فرض على الحكومة التعامل مع الأزمة، وبالتالي من الممكن أن تؤدي إلى تأثير سلبي على خطط الحكومة تجاه برامج التنمية، ويؤكد أنه رغم أهمية الوديعة لتعزيز الاحتياطي، إلا أنها أثقلت كاهل الاقتصاد المصري بسبب نسبة الفائدة المرتفعة.
وعلى المدى القصير تحتاج مصر للحد من الاختلالات في الاقتصاد الكلي من خلال الاستخدام العدواني للسياسات المالية والنقدية وكجزء من استراتيجية شاملة متوسطة الأجل، هكذا يرى د. رشاد عبده الخبير الاقتصادي.
وتابع عبده: “استمرار الانخفاض في الاحتياطي يؤرّق موازنة الدولة، ومع ذلك فإن تجاوب البنك المركزي مع رد قيمة الوديعة القطرية قبل موعد استحقاقها يؤكد على قوة الاقتصاد المصري في التعامل مع الأزمات المالية الطارئة، بالإضافة إلى أنه يعزّز من قيمة ومكانة الاقتصاد أمام المستثمرين، خاصةً وأن لجوء القاهرة إلى الاقتراض لرد وديعة قطر كان سيخلف مردوداً سلبياً عن أداء الاقتصاد”.
ويؤكد أن “السعودية والإمارات ستعوّضان القاهرة بوديعة جديدة بقيمة خمسة مليارات دولار لدعم الاحتياطي النقدي للبلاد تتميز بفترة سماح طويلة ونسبة فوائد ضئيلة، خاصةً وأن الحكومة المصرية لديها التزام نقدي بقيمة 700 مليون دولار لنادي باريس يناير المقبل”.
ويشير عبده إلى أن قطر كانت في انتظار طلب الحكومة المصرية بمد فترة الوديعة في البنك المركزي، لكن القاهرة تمسكت بعدم التقدم بطلب رسمي لتجديد فترة استحقاق الوديعة، خوفاً من المتاجرة بالطلب خارجياً والتأثير على قوة الاقتصاد، لاسيما وأن البنك المركزي يمتلك القدرة على الوفاء بالتزاماته الخارجية.
تسعى الحكومة المصرية إلى وضع العديد من التشريعات الاقتصادية، أبرزها قانون الإصلاح الضريبي لإدخال الضريبة على القيمة المضافة، وترشيد هيكل الضرائب لتقليل الخسائر وتحسين تخصيص الموارد بما يتماشى مع ظروف السوق.
ويرى د. حمدي عبد العظيم مدير أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، أن رد وديعة قطر قرار جريء من الحكومة في ظل حاجة الدولة للعملة الصعبة، لتسديد مستحقات شركات البترول المتأخرة، بجانب القروض الخارجية التي يتم تسديد أقساطها شهرياً، ويشدد على ضرورة إعادة توزيع الائتمان المصرفي للقطاع الخاص من شأنه تدعيم سياسة نقدية حكيمة لاحتواء التضخُّم وتخفيف الاختلالات الخارجية، ويسمح للسياسة المالية بمواجهة تحديات السياسة الداخلية، وبالتالي تسهيل تدفقات رأس المال والمساعدة في الحد من الضغوط على الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي.
ويؤكد عبد العظيم أن مصر بحاجة إلى إجراء إصلاحات هيكلية للقضاء على معوقات الاستثمار الخاص، بالإضافة إلى إجراء إصلاحات لتطوير المؤسسات المالية وتعزيز سوق الائتمان، وتحرير القواعد واللوائح التي تنظم الاستثمار، وتعزيز قطاع الأعمال والبيئة القانونية لضمان فرص متكافئة بين المستثمرين المصريين والأجانب، بجانب إصلاح جذري لنظام الدعم، وتكامل أوثق مع الاقتصاد العالمي من خلال تحسين القدرة التنافسية.
وفي سياق متصل يؤكد د. محسن عادل نائب رئيس الجمعية المصرية لدراسات التمويل والاستثمار، أن وديعة قطر ستُعيد أزمة النقص الحاد في توفير العملة الصعبة للمستثمرين، في حال تباطأت الحكومة في توفير قيمة الوديعة وضمها للاحتياطي النقدي، الذي وصل إلى (16 مليار دولار قبل رد وديعة قطر)، حتى لا يؤثر على انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، ويشدد على ضرورة تحديد الأولويات على الموارد المالية، والقدرات الإدارية المحدودة للقيام بإصلاحات في وقت واحد على جميع الجبهات.
ويرى عادل أن الدولة لابد أن تركّز في البداية على إصلاح سياسة الدعم بحيث يبدأ تسعير السوق، وتخفيض دعم الطاقة لتحسين الحسابات المالية والخارجية، وتفعيل إصلاحات السياسة الضريبية والتي سيكون جزء من الاستقرار على المدى القصير، ويمكن أيضاً تمويل مشاريع القطاع العام الكبيرة لتجنُّب تراكم أعباء الديون التي لا يمكن تحمُّلها، ويوضح أن تبسيط تنظيم الأعمال وخفض الروتين والفساد، وتعزيز المساءلة المؤسسية، من شأنه أن يقطع شوطاً طويلاً نحو تحسين مناخ الأعمال وتعزيز ثقة المستثمرين، بالإضافة إلى أن الدولة تحتاج إلى الاتفاق على مزيج من السياسات النقدية وأسعار الصرف، نظراً لارتفاع معدلات التضخُّم وتبني سعر صرف للعملة المحلية أكثر مرونة.