منذ بدايات الحضارات الأولى، كان البشر يستعملون الملح في تحضير وتخزين الأغذية، بالإضافة إلى تحسين نكهاتها.
في العصور الرومانية القديمة، كان الملح يمثل عاملًا رئيسيًا في عملية التبادل التجاري، حتى أنه كان يُصرف كجزء من أجور الجنود. وتكمن قيمة الملح جزئياً في كونه مادة تحافظ على الأغذية، فهو يعمل على منع الكائنات الحية الدقيقة “الميكروبات” التي لا نرغب فيها، بينما يسمح بنمو تلك التي نستفيد منها. هذه الخاصية الفريدة في التحكم بنمو البكتيريا ربما كانت وراء ابتكار مختلف أنواع الأطعمة المخمرة والمتنوعة من مخلل الكرنب إلى السلامي، ومن الزيتون إلى الخبز، ومن الجبن إلى الكيمتشي. اليوم، يعد الملح مادة شائعة الاستخدام وأصبح مركزًا بكثافة ضمن الأنظمة الغذائية المعالجة بشكل متزايد.
الأطعمة المشبعة بالملح تؤدي إلى تسميم الميكروبات داخل الجسم، مما ينجم عنه تطور الحالات المرضية
تلمح الشواهد إلى أن استهلاك الصوديوم الزائد؛ وبالأخص كلوريد الصوديوم الذي يضاف إلى كثير من الأغذية المصنعة للمحافظة على طعمها وتحسينه، يؤدي إلى مرض الإنسان؛ حيث يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم ويزيد من خطر الإصابة بنوبات قلبية وجلطات دماغية. ويُعتبر أيضاً مرتبطًا بزيادة احتمالات الإصابة بأورام المعدة والقولون ومرض مينيير وضعف العظام والبدانة. كيف يمكن لمادة كانت فيما مضى تعادل في القيمة الذهب، أن تتحول الآن إلى عامل ينظر إليه الكثير من المنظمات الطبية على أنه مؤشر رئيسي للأمراض؟
يخبرنا البروفيسور كريستوفر دامان، الأستاذ في أمراض الهضم في كلية الطب بجامعة واشنطن والباحث العلمي، بأنه يتطلع لنقل الشواهد المتنامية التي تشير إلى أن البكتيريا الموجودة في جهازك الهضمي قد تسلط الضوء كذلك على الطريقة التي يُسهم فيها الملح في إحداث الأمراض. إذ يعتبر تأثير الصوديوم على ضغط الدم وأمراض القلب بالأساس نتيجة لتحكمه في حجم الماء في الأوعية الدموية. وبشكل أبسط، كلما ارتفع مستوى الصوديوم في الدم، كلما زاد جذب الماء داخل الأوعية الدموية، مما ينتج عنه ضغط دم مرتفع، وبالتالي يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية. ويذكر أن بعض الأشخاص قد يكونون أكثر أو أقل قابلية للاستجابة لتأثيرات الملح على ضغط الدم. جاء ذلك وفقًا لما أورده موقع “the conversations” العلمي البارز.
أفاد دامان بأن “الدراسات الجديدة تلمح إلى أسلوب إضافي قد يسبب به الملح ارتفاع ضغط الدم، وذلك من خلال تأثيره على التركيب البكتيري للأمعاء. حيث يتسبب الملح في تقليل عدد البكتيريا النافعة والعناصر الأيضية الهامة التي يتم إنتاجها من الألياف الغذائية. وتختص هذه العناصر الأيضية بخفض معدل الالتهابات داخل الأوعية الدموية والحفاظ عليها مرنة، مما يساعد في خفض مستوى ضغط الدم”.
ما عدا بعض الكائنات الدقيقة التي تنمو في بيئات ملحية وتُعرف بـ “الهالوفيلات”، فإن تركيزات الملح العالية قد تكون سامة لأي نوع من الميكروبات، بما فيها تلك التي يفضل جسم الإنسان الإبقاء عليها. ومن أجل ذلك، راجت عادة استخدام الملح منذ قديم الزمان للحفاظ على الأطعمة والوقاية من البكتيريا غير المرغوب فيها. لكن الأنماط الغذائية المعاصرة غالبًا ما تكون مرتفعة بشكل مفرط في محتوى الصوديوم.
بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، يجب ألا يتجاوز الاستهلاك اليومي للصوديوم للفرد البالغ 2000 ملليغرام.
من المرجح أن ينجم عن المتوسط العالمي لاستهلاك الصوديوم، الذي يبلغ 4310 مليغرامات، إلى تراكم كميات من الملح في الأمعاء تتخطى الحدود الآمنة للصحة.
من ناحية أخرى، هناك علاقة بين الصوديوم وتأثيرات صحية أخرى بخلاف تأثيره على ضغط الدم، وقد يكون للميكروبيوم الموجود في جسمك دور في ذلك أيضاً. لوحظ أن الحميات الغذائية ذات المحتوى المرتفع من الصوديوم ومستوياته العالية في البراز ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالخلل الأيضي، والذي يشمل ارتفاع معدل السكر في الدم ومرض الكبد الدهني والسمنة.
تشير دراسة إلى أن زيادة كل غرام من الصوديوم في الطعام اليومي قد ترفع احتمالية الإصابة بالبدانة بمعدل 15%. كذلك، أظهرت دراسة عالية المستوى أجراها المعهد الوطني للصحة أن الأشخاص الذين يستهلكون طعامًا شديد التصنيع على مدى أسبوعين، يستهلكون ما يقرب من 500 سعرة حرارية إضافية يوميًا، ويكتسبون ما يعادل تقريبًا 2 رطل من الوزن مقارنة بالأشخاص الذين يتناولون طعامًا أقل تصنيعًا. وقد كانت واحدة من أبرز الفروقات بين النظامين الغذائيين هي الاستهلاك الزائد للصوديوم بمعدل 1.2 غرام في النظام الغذائي شديد التصنيع.
في هذا السياق، تعد واحدة من النظريات الأساسية حول سبب إمكانية أن يؤدي ارتفاع استهلاك الملح إلى زيادة الوزن بالرغم من خلوه من السعرات الحرارية، هي أن الصوديوم يزيد الرغبة الشديدة في الطعام. فعند اقتران الصوديوم بالسكريات البسيطة والدهون غير الصحية، قد ترتبط الوجبات التي تعرف بكونها ذات مذاق مفرط في الاستساغة بزيادة الدهون في الجسم، نظرًا لقدرتها العالية على تحفيز مراكز اللذة في الجسم.
على الرغم من أن العديد من الدول تطبق مشاريع وطنية لخفض استهلاك الملح، فإن معدلات تناول الصوديوم حول العالم ما زالت تشهد ازديادًا. في الولايات المتحدة خاصة، تظهر الجهود لتقليل الملح في الطعام تأخراً مقارنةً بجهود دول أخرى، حيث تشهد دول أوروبية عدة الآن منافع مثل تخفيض ضغط الدم وانحسار نسب الوفاة بسبب أمراض القلب، وذلك بفضل خطوات مثل تحسين الإشارات على تغليف الأطعمة لتشير إلى محتوى الملح، وتعديل مكونات الأغذية لخفض نسبة الملح فيها، بجانب فرض ضرائب على الملح. لو نظرنا إلى المحتوى الغذائي لأنواع الوجبات السريعة في مختلف الدول، سنلاحظ اختلافات كبيرة؛ مثالًا على ذلك، تعد قطع الدجاج من ماكدونالدز في الولايات المتحدة من أكثر الأطعمة احتواءً على الملح، وحتى مشروب الكولا الأمريكي يحتوي على نسبة من الملح، وهي مكونة غائبة في المشروبات المماثلة بدول أخرى.
تتزايد البراهين التي تشير إلى أهمية تخفيض كمية الملح في الغذاء اليومي، وقد بدأت المنظمات تتفاعل مع هذه المعطيات.
في العام 2021، قامت وزارة الزراعة في الولايات المتحدة الأميركية بإصدار توجيهات صناعية جديدة تشجع على الحد بشكل تدريجي واختياري من محتوى الملح في المنتجات الغذائية المعالجة والمعدة للتجارة. كذلك، تم إغلاق معهد الملح في سنة 2019. وقد قامت منظمات أخرى كالمعهد الأميركي للمنتجات المجمدة وشركات توريد المكونات الأساسية مثل “كارجيل” بالمشاركة في مبادرات تقليل المحتوى الغذائي من الملح.
كيف يمكن العناية بالميكروبيوم المعوي وتغذيته بصورة صحيحة مع الانتباه إلى كمية الملح المستهلكة في نظامك الغذائي؟
إبدأ في تقليص كمية الأغذية المصنعة بشكل كبير التي تتناولها؛ كاللحوم المملحة (الوجبات الجاهزة واللحوم المصنعة)، والمأكولات المملحة (مثل الكوكيز وشرائح البطاطس)، إضافةً إلى السناكات المملحة (المشروبات الفوارة والصلصات والخبز المملح).
يجري استهلاك ما يقارب 70 في المئة من الملح في الغذاء في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال المنتجات المعلبة والمصنعة. لذا، يجدر بك التركيز بدلًا من ذلك على الأطعمة ذات المحتوى القليل من الصوديوم والسكر المضاف، والغنية بالبوتاسيوم والألياف، كالمنتجات النباتية الطبيعية مثل البقوليات والمكسرات والبذور والحبوب الكاملة ومختلف أنواع الفواكه والخضروات.
تحتوي الأطعمة المتخمرة على نسبة مرتفعة من الصوديوم ولكنها قد تعد خيارًا جيدًا للصحة نظرًا لغناها بالأحماض الدهنية ذات السلسلة القصيرة والألياف والمواد البوليفينولية والبوتاسيوم.
وفي الختام، يجب الاهتمام بالتوازن بين النسب الغذائية من الصوديوم والبوتاسيوم؛ حيث يعمل الصوديوم على تثبيت السوائل داخل الأوعية الدموية، بينما يُسهم البوتاسيوم في الحفاظ على رطوبة الخلايا؛ لذا، من المستحسن أن يكون استهلاك الصوديوم والبوتاسيوم بمعدلات متكافئة.